الحرية الدينية في مجتمعات القرون الوسطى الإسلامية: فكراً وممارسة

الحرية الدينية في مجتمعات القرون الوسطى الإسلامية: فكراً وممارسة
Warning: Undefined variable $post in /customers/4/2/e/etccmena.com/httpd.www/wp-content/plugins/facebook-like/facebooklike.php on line 81 Warning: Attempt to read property "ID" on null in /customers/4/2/e/etccmena.com/httpd.www/wp-content/plugins/facebook-like/facebooklike.php on line 81

ReligiousFreedomبقلم: محمد جمال باكير

تأتي مادة الحرية الدينية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان استجابةً للتطور الفكري للإنسان واستخلاصا للتجربة البشرية المتراكمة عبر المكان والزمان.من الضرورة هنا أن نشير إلى أن مصطلح الحرية الدينية ومفهومه الحديث لم يكن مستخدما في القرون الوسطى ,إلا أن ذلك لا يعني غياب الظاهرة وتجلياتها وتداعياتها. بل على العكس, فإننا نرى في المشهد الإسلامي القروسطي غنىً و تنوعاً يجعله خير موضع للدراسة والبحث والتحليل واستخلاص العبر والقوانين ويتطلب ذلك ملجدات ومجلدات.ولكنني سأكتفي هنا بتحليل ثلاثة نقاط:ما هو موقف القرآن/”الإسلام النصي” من الموضوع؟ وما هو موقف “الإسلام التاريخي” أو ما استقر عليه فهم المسلمين البشري للنص الإلهي في تلك الحقبة التاريخية؟ وكيف كانت ممارستهم العملية لهذا المفهوم؟ سنستعرض للموضوع بجانبيه: موقف الفرق الإسلامية فيما بينها (الآخر الملي) وموقفهم من أتباع كل الديانات الأخرى (الذمي).أما المعالجة فهي إجمالية للظاهر والأعم.

شكلت الدعوة الإسلامية المبنية على القرآن ثورةً في القرون الوسطى ,من حيث النظرة القرآنية المتميزة للإنسان والكون والله والمتقدمة بأشواط كبيرة على سائر الكتب الدينية والدنيوية.ومن أهم منجزات هذه الدعوة هي تقديم نظرية حية لما يصطلح عليه الآن بـ “المجتمع المدني” من حيث حقوق الفرد والحريات والمشاركة والتعايش بين المجموعات القبلية والدينية والعرقية المختلفة,والتعاقد والتكافل.ولعل أبرز ما يميز القرآن هو تشديده على قيمة الحرية الإنسانية ومن بينها حرية الإيمان,كنتيجة حتمية للحكمة الإلهية التي تقضي بتكليف الإنسان العاقل وتقريره مصيره بنفسه في الآخرة بناءا على خياراته في الدنيا:”لا إكراه في الدين,قد تبين الرشد من الغي” “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”.

فقد اعتمدت دعوة الرسول على معجزة الكتاب ذو الأساليب البلاغية والحجج المنطقية والقيم الإنسانية و البراهين الدامغة,وكانت طريقته من جنس أدلته: “ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”.وطالما أنه قد ظهر الحق,فلن يضره إيمان من آمن ولا كفر من كفر,فالمسألة شخصية بامتياز إذ يقول تعالى:” إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق, فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها,وما أنت عليهم بوكيل”.وتتكرر الآيات القرآنية التي يحجب فيها الله عن رسوله صفة الرقابة الدينية عن كل الرافضين لاعتناق دينه,فلله وحده الحق في حساب الناس والقضاء بينهم يوم القيامة ولا شأن لأحدٍ بمحاكمة إنسانٍ على دينه في دنياه.وبما أنه اعترف لهم بحقهم بالوجود و الاختلاف وممارسة دينهم كما يريدون,فإنه قبل عضويتهم في المجتمع وفرض لهم حقوقا طالما أنهم راغبون بأن يكونوا جزءا من المجتمع المسلم,إذ يقول تعالى:”لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم,إن الله يحب المقسطين”.هذه هي رؤية الإسلام النصي للحرية الدينية التي عاشها العهد النبوي.

في الجانب الآخر,لم يكن الناس في العصور الوسطى مؤهلين كفايةً لاستيعاب كافة تداعيات النقلة النوعية التي أحدثها الإسلام.فصاغوا فهماً إسلامياً على قدر عقولهم يوافق أوضاعهم ورؤاهم السياسية والاقتصادية-الاجتماعية  في تلك الفترة التاريخية, وذلك ما نسميه “الإسلام التاريخي”. ويبدو هذا جليا من خلال فشل تجربة الشورى والحرية السياسية التي أقرها القرآن وكرسها رسول الله عندما مات ولم يستخلف من بعده,فدب القتال بعد 25 سنة من موته وعادت القبلية من جديد تنافس المجتمع المدني الذي تركه النبي,وتحولت الخلافة إلى ملك.

وفي خضم التجاذبات السياسية, كان لا بد للآراء السياسية أن تتحول لاحقاً إلى آراء دينية,تغذي السياسة وتحميها والعكس صحيح. وبدأت “صناعة الدين” بتحجيم القرآن ابتداءاً من أدلجة التفاسير و صناعة الحديث واستعماله كسلاح سياسي, وصولاً إلى إضافة مصادر تشريع بشرية جديدة تنافس القرآن في سلطته : فبعضهم يشرع القياس وآراء الصحابة والشرائع السابقة والإجماع, وبعضهم يشرع أقوالا ينسبها لأئمة معصومين, يأمرون وينهون كالله في كتابه.فتعددت مصادر استسقاء الشريعة بنسب متفاوتة بين الفرق الإسلامية, رغم تحريم الله لذلك في عدة آيات قرآنية.

والمثير للاهتمام أنهم وبالرغم من اختلافاتهم السياسية والعقائدية,اتفقوا على تشريع حكم جديد اسمه “حد الردة” ,حيث يجوزون إكراه من ولد لأبٍ مسلمٍ على أن يكون معتنقاً لهذا الدين,وإلا فمصيره القتل.إذ أنه ليس من حقه الكفر أو الخروج عن الدين بخلاف من ولد من أتباع الديانات الأخرى,إذ يحق له أن يختار ما يشاء من عقائد بحرية تامة.والواقع التاريخي يثبت أن هذا الحكم إنما استخدم لتكفير بعضهم البعض لأسباب سياسية بالدرجة الأولى وليس إزاء أشخاصٍ تركوا الإسلام فعليا.ولم يقف الأمر عند هذا الحد النظري,فإن تكفير المسلم في نظرهم يستدعي استباحة دمه وماله بخلاف الكافر الأصلي المقيم في المجتمع المسلم.ومن هنا تبدو المفارقة في الحرية الدينية:تعصب مقيت بين الفرق الإسلامية إزاء الآخر الملي, وتسامح لا مثيل له في القرون الوسطى, إزاء أتباع الديانات الأخرى.

لكن مجتمعات القرون الوسطى لم تفهم مبدأ الحرية الدينية كقيمة إنسانية معزولة عن السياسة والنظام والسلطة,فكفلوها لكل الكفار وأنكروها للمسلم.وأعتقد أن السبب في ذلك هو الاعتقاد بأن الكافر هو أصلا خارج مفهوم الحقيقة والنور الذي نزل,وبالتالي فلا يضر سواء بقي على دينه أم أسلم أم اعتنق ديانةً أخرى أم ألحد.أما المسلم المخالف فهو منافس في تعريف هذه الحقيقة وامتلاكها واحتكارها, وبالتالي فإن القضاء عليه أسهل من فتح باب هذه المنافسة,لذلك فالخصومة هنا أشد.حقا,من العجيب أن نعلم أن صلاح الدين الأيوبي,ذاك القائد العظيم, قد أرسل طبيبه الخاص لمعالجة ريتشارد قائد الصليبيين الذين فتكوا بالمسلمين واحتلوا بيت المقدس,ذاك القائد هو نفسه الذي أمر بقتل الفيلسوف السهروردي.من العجيب أن كلاهما سني شافعي,ولكن السهروردي ذو ميول صوفية اشراقية تستوجب القتل عند صلاح الدين.

كذلك,فإن الأقليات الدينية سواء كانت مسيحية أو يهودية أو صابئة أو هندوسية,تبقى أقليات مهما ارتفع شأنها فلن تصبح يوماً على رأس الهرم.أما الآخر-الملي ,فإنه متى ما استحكم وقويت شوكته,صار مرشحا لاستلام السلطة واضطهاد الفرق الأخرى من ملته.ومثال على ذلك ما فعله أمير العراق خالد القسري.بنى لأمه المسيحية الرومية كنيسةً كي تتعبد وذويها فيها.بينما هو نفسه الذي نحر يوم العيد أخيه المسلم الجعد بن درهم,فقط لأن مذهب الأخير يخالف أيديولوجيا النظام الحاكم. والتاريخ يشهد بأنه كلما زادت السلطة في إضطهاد فرقة ما,كلما زادت هذه الفرقة في جرعة تسييس الدين.وكلما تدخل النظام بالشؤون الدينية,كلما تقلصت الحرية الدينية.وبعيدا عن الدوائر السياسية,فإن المثقفين من كل الفرق الإسلامية كانوا يتنقلون بين المذاهب ويتجادلون ويتناظرون بحرية وتسامحٍ كبيرين.أما أهل الذمة من سائر الأديان,فقد ظلوا يتمتعون باستقلال داخلي يضمن لهم تطبيق شريعتهم لدرجة أنهم كان يسمح لهم بما هو محرم على المسلمين.وقد كانوا مصانين أيضاً في دمائهم وأموالهم وأعراضهم,ينافسون المسلمين في المناصب الإدارية والتربوية والعلمية والثقافية.

وأخيراً,وتأكيداً لما نظّرت له,أقول: إن البنيان السياسي الاجتماعي الذي سمح لليهود بتكوين عصرهم الذهبي في الأندلس,هو نفسه الذي سمح بإحراق بعض كتب ابن حزم الأندلسي ,حتى قال:

فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي    تضمنه القرطاس بل هو في صدري

يسير معي حيث استقلت ركائبي              وينزل إن أنزل ويدفن في قبري

sibaradmin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *