تأملات حول الهوية

تأملات حول الهوية
Warning: Undefined variable $post in /customers/4/2/e/etccmena.com/httpd.www/wp-content/plugins/facebook-like/facebooklike.php on line 81 Warning: Attempt to read property "ID" on null in /customers/4/2/e/etccmena.com/httpd.www/wp-content/plugins/facebook-like/facebooklike.php on line 81

identityقد تكون إحدى ابرز سمات الربع الأخير من القرن الماضي صعود مسالة الهويات والثقافات إلى الواجهة واحتلالها الصدارة في الخطاب السياسي والثقافي والإعلامي. وساهم في هذا الصعود توسيع مفهوم الثقافة الذي لم يعد منحصرا في طابعه النخبوي والأدبي لينحو نحو المضمون الانتروبولوجي الواسع والذي بمقتضاه تصبح بمثابة كل مركب يشمل عناصر الحياة المادية والتقنية والثقافية والرمزية والطقوسية.  كما ساهم فيه ترجيح كفة البعد الثقافي في تحديد العلاقات بين المجموعات البشرية على الصعيد الدولي، واحتلال المطالب الثقافية حيزا كبيرا ضمن لائحة الحقوق الإنسانية الكونية. فقد أصبح مألوفا اليوم تعريف الثقافة باعتبارها ذلك ” الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاقيات والقانون والعرف، وأي قدرات أو عادات أخرى يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع”[1]. ومن ميزات هذا المنظور أن أصبحت الهوية لا تعني الاشتراك في خصائص طبيعية عرقية، وإنما كذلك تاريخية حضارية. وفي نفس الوقت أضحى يقلص من الحمولة التوحيدية لها تاركا المجال اكبر أمام النسبية والتعدد والمغايرة والتثاقف باعتبارها ركائز الهوية الحديثة. إلا أن هذا المنظور مع ذلك ليس بالبداهة التي تجعله يحظى بإجماع الكل وفي جميع الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية. فكثيرا ما وظفت النسبية الثقافية لتقويض أسس العقل والعلم والديمقراطية، وكثيرا ما استغلت الهوية لإقامة اشد الأفكار والمؤسسات تعصبا وتطرفا…إن مفهوم الهوية مع ذلك يبقى مفهوما مركبا ويشوبه الالتباس والغموض.

التباسات المفهوم:

إن كل هوية حسب ألان تورين هي دعوة ” تركز على ضامن ميتا اجتماعي للنظام الاجتماعي وبشكل خاص على جوهر إنساني، أو بكل بساطة على الانتماء لجماعة ما معرفة بواسطة قيم أو خاصية طبيعية أو تاريخية”[2].  نستنج من هذا التحديد انه سواء تمت الإحالة على خصائص طبيعية أو دينية، نفسية أو اجتماعية، ثقافية أو تاريخية، فان تناول مسألة الهوية والغيرية يستند على مبدأ الدعوة أو الموقف، ويقع أساسه خارج دائرة الاجتماعي، ولا يخرج عن موقفين اثنين، يمكن نعت الأول بكونه انطولوجي – ماهوي، والثاني تاريخي – نسبي، فهي بالنسبة للأول أصل بينما لدى الثاني هي بناء وتشكيل.

إن الهوية دائما ما تطرح في مقابل غيرية، أي هوية أخرى منافسة ومزاحمة لها والتي عادة ما توسم بلفظ “الآخر”.  فالآخر ليس ذاتا مغايرة لها ومتساوية من حيث القيمة، وإنما هو هذا اللا أنا الأقل قيمة من الأنا. إن هذه الرؤية التي توصم الآخر Stigmatise هي التي تبرر الأوصاف والنعوت والممارسات الممكنة تجاهه. إن تعريف الهوية إذن هو عملية معقدة لإعادة تشكيل صورة الذات في جوهريتها وطهرانيتها من خلال إسقاط الصورة السلبية اللاشعورية التي تحملها عن نفسها على الآخر، وذلك بغض النظر عن مضمون هذا الآخر وعن طبيعة العلاقة التي تربط به سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل. إلا أن الظروف التاريخية والوقائع الفعلية تساهم في رسم خصائص الهوية، فقد تزداد غلوا وانكفاءا على ذاتها كلما تغذت من علاقات تاريخية وسياسية مع الآخر مطبوعة بالصراع والمصادمة، وكلما كانت علاقات القوة المادية والرمزية ( تكنولوجيا، صناعة، علم، فلسفة، ثقافة، فن…) تتسم بعدم التكافؤ وغلبة طرف على الآخر. لذلك يستدعي منطق الهوية نفي الآخر أو على الأقل إقامة مسافة معه تسمح على الصعيد النفسي والإيديولوجي بتعزيز شعور الذات بوحدتها وتجانسها وعدم خيانتها لهويتها المتصورة كوحدة ضاربة في القدم، ذلك أن الوعي الهوياتي هو وعي متجذر في ماض أسطوري يتم دائما استحضاره وتصريفه عبر مؤسسات وممارسات مختلفة ( تنشئة، تلقين، طقوس…) من اجل تأكيد الاستمرارية والوفاء للأصل النقي والطاهر. إن الهوية وفقا لهذا التصور لا تاريخ لها بل لا تعرف مفهوم الزمن كتجدد أو تطور أو انقطاع. إن تشكل الهوية كوحدة متجانسة مغايِرة للوحدات الأخرى لا يكون دائما سلميا، حيث يكون العنف مؤسسا لهذا التشكل، سواء أخذ شكلا ماديا كالحرب والمواجهة، أو رمزيا ولفظيا.”[3].. إن تصنيفات من قبيل، متخلف/متقدم، بربري/حضاري، قروي/مدني، عقلاني/أسطوري…. تستبطن مواقف عنف تتشربها العقول والأجساد وتوجه الاستراتيجيات والسلوكات. إن الهوية بهذا المعنى عنف مادي ورمزي محتكر ومشرعن.

بينما يبدو في الجهة المقابلة انه ليست هناك هوية بالمفرد وإنما بالجمع، وليست هناك هوية تنفلت من قبضة الزمان والمكان، وبالتالي فليست هناك هوية ثابتة أو جوهر مطلق، إنما فقط هناك دعوات هوياتية. إذ لا وجود لهوية إلا إذا كانت مندرجة في تاريخ ما ومجسدة لإرادة فعل ما، فالتاريخ يفيدنا أن الهوية لا تتشكل في المطلق أو في عالم الأفكار وإنما في الواقع المادي للبشر. أما الدعوة فتعني إرادة الفعل والقدرة على الإنجاز ووجود فاعلين واعيين بأهدافهم ومصالحهم يعبئون ويستثمرون الموارد الدائمة التي تتغذى منها الهوية. إن الهوية منظورا إليها كجملة من الخصائص الطبيعية والاجتماعية والثقافية واللغوية والحضارية التي تميز جماعة ما وتمنحها شخصيتها الثقافية والتي من خلالها تدرك العالم وتمنحه معنى وتحفزها لإرادة العيش المشترك، هي بمثابة سيرورة دائمة التشكل وإعادة البناء وبالتالي فهي بناء اجتماعي ثقافي تاريخي. إن خضوعها للتشكل المستمر والتكيف والملائمة يجعلها موضوعيا مندرجة في التاريخ الكوني ولا تستند على خصائص طبيعية أو فيزيولوجية أو حضارية مزعومة، حتى ولو كانت تشكل بعدا أساسيا من تكوينها. إن التاريخ والمجتمع يدمجان ويركبان ويصهران الهويات.  كما أن الهوية ليست بنية جامدة من القيم والمؤسسات والوقائع والأدوار المفروضة من الخارج على الأفراد بفعل تقليد ما أو انتماء أصيل وإنما بالعكس من ذلك فهي تعد بمثابة إطار مرن للتفاوض ومجال مفتوح أمام مختلف تعريفات وتأويلات المؤسسات والأفكار والحاجيات.  إن الإقرار بنسبية الهوية سيفضي إلى نتائج سياسية وثقافية مهمة كقبول الآخر، التسامح، الانفتاح، الاعتراف بالتعدد والتنوع، الديمقراطية، الخ.

والآن كيف طرحت إجمالا مسائل الهوية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية؟

لقد أخذت أشكالا مختلفة باختلاف السياقات التاريخية والفترات الزمنية والأوضاع السياسية وكذا التركيبات السوسيو ثقافية والعرقية لكل بلد. لكن يمكن مع شيء من الاختزال حصرها في صورتين الأولى تجسدها ثنائية الأنا العربي – الإسلامي /الآخر الغربي، والثانية تعبر عنها ثنائية الأغلبية/الأقلية ليس بالمفهوم السياسي فقط وإنما الثقافي واللغوي وهو ما يعني العرب في مقابل الأقليات العرقية غير العربية.

أما الأولى، فحينما أدركت الهوية العربية الإسلامية كتقابل للآخر الأجنبي، فإنها قد أنتجت مواقف وأحداثا وخطابات ترسم العلائق معه إن على صعيد الواقع أو الوجدان والمتخيل. وما يهمنا هنا هو ما أنتجته على صعيد الأفكار. لقد أفرزت تيارات فكرية وسياسية متعددة بعضها ينتصر للذات في صفائها وطهارتها وبعضها للغرب في قوته التي لا تقهر وتقنيته التي امتدت لتطال الطبيعة والإنسان والجسد، والبعض الآخر رأى في تكاملهما خير ملاذ لحفظ ماء وجه الذات دون التفريط في مكتسبات العصر. وهكذا وجدنا أنفسنا حسب خطاطة عبد الله العروي الشهيرة أمامنا ثلاثة نماذج:  فاجتهد كل من السلفي والليبرالي والتقنوي في تقديم إجابات حول سؤال المفارقات المتمثل في سر تقدم الغرب وتخلف الذات، في أسباب انحدار هويتنا و صعود هويات أخرى…

ينظر السلفي إلى واقع حال المسلمين فلا يرى سوى التخلف والاستبداد والتجزؤ (تجزؤ قبلي، لغوي، اثني، تخلف علمي وتقني). يعي أن عناصر قوة الغرب غير موجودة في واقعنا فليس لدينا علم ولا عقل ولا مدنية، يعني في الأخير أن الإسلام وحده القادر على صهر ودمج الاختلاف واستيعاب الانشطار والتجزؤ والنهوض بواقع المسلمين على اعتبار انه يقوم على العقيدة وعلى الولاء لله.  يتساءل عن سر تأخر المسلمين ماداموا يمتلكون دينا يدعو إلى التبصر والنظر والمدنية والعلم؟  يرى الشيخ محمد عبده أن” سبب ضعفنا الإعراض عن الرسالة والتنكر لدعوة الإسلام”، عندئذ يميز بين إسلامين، إسلام متعال أصيل غير ملطخ بعوارض الزمان وإسلام خاضع لأهواء المسلمين، محرف مشوه على مدى القرون والأجيال”[4] .

أما الليبرالي فسيستعين بقوة النموذج الغربي التي يعزوها إلى طبيعة نظامه السياسي المتمثل في الديمقراطية والعقلانية والعلمانية، إن الدعوة الليبرالية لا تكتفي باستبطان العلمانية والديمقراطية وإنما أكثر من ذلك تدين الذات والتراث وتعيد إنتاج المقولات الغربية والاستشراقية حول التلازم اللاتاريخي بين الشرق والجور والاستبداد، فرجل السياسية ” يقولها كلمة جامعة نعم لم يعرف الشرق أبدا سوى الاستبداد والجور والخوف، حاكم مطلق ورعية مقهورة مستعبدة”[5] .

تسكن العقلانية هذا الفكر وبدرجة اقل العلمانية، مستعيرة الصراعات الدينية التي عرفتها أوروبا الوسيطية بين الدولة والكنيسة ومقيمة بذلك تماثلا بين سلطة الكهنوت والإقطاع في أوروبا والاستبداد العربي الإسلامي.

إن التفكير في سؤال العلمانية سيقود الفكر الليبرالي في مرحلة أولى إلى التفكير في حرية العقيدة باعتبارها ركنا من أركان الحداثة السياسية[6]،  ومدخلا لتأسيس الطابع المدني للمجتمع والدولة، فمثلا يبدي الطهطاوي إعجابا كبيرا بحرية العقيدة حين يقول” كل إنسان موجود في بلاد الفرنسيس يتبع دينه كما يجب، لا يشاركه احد في ذلك، بل يعان على ذلك، ويمنع من يتعرض له في عبادته”، وثانيا “إلى الحديث في عقيدة الدولة، في اختياراتها الداخلية المتصلة بشكل النظام السياسي ومصادر الشرعية فيه”[7]. وبالتالي الدعوة إلى دولة القانون كأبرز تجليات الفكرة الليبرالية.

بينما التقنوي سيسطع نجمه بعد الاستقلالات الوطنية واستعارة بعض عناصر التجربة السياسية الغربية كالدساتير والبرلمانات والقوانين والتشريعات الوضعية والتي انتهت دون أن تأتي بأية قيمة مضافة فلا هي حققت التنمية ولا هي نقلت العرب من وضع المنفعل إلى الفاعل التاريخي والحضاري. لقد أعتقد دعاته أنهم وقفوا على حقيقة الغرب التي عجز سابقوهم عن إدراكها مكتفين بالانفعال ببعض تجلياته أو تعبيراته، فسر تفوق الغرب لا يعود لقتله للإله ولا لتمجيده للحرية الفردية وإنما لصناعته وعلمه التطبيقي. يقول العروي ” يخرج هذا الفاعل بقناعة راسخة أن الغرب ليس دينا بدون خرافة ولا دولة بدون استبداد، الغرب بكل بساطة قوة مادية أصلها العمل الموجه المفيد والعلم التطبيقي”[8]

القسم الثاني

أما حين طرحت هذه الإشكالية في الداخل أي في علاقة الذات بذاتها فإنها ولدت الثنائية الثانية والتي أخذت صيغتين إحداها ظلت مرتبطة بالمشرق العربي ( لبنان، سوريا، مصر، العراق) والأخرى بالمغرب العربي( الجزائر، المغرب، تونس، ليبيا).

في المشرق تم التعبير عن هذا التقابل في إطار ما عرف بمسالة الأقليات العرقية والطائفية على وجه الخصوص حيث انه بعد الاستقلالات الوطنية وفشل الكيانات القطرية الحديثة في تحقيق الوحدة القومية التي ظلت ترفع شعار تجاوز الانقسامات السياسية والعصبوية واللغوية والمذهبية باعتبارها من نتائج السياسة الاستعمارية في الوطن العربي التي تستهدف تشتيت الكيان القومي وتكريس التبعية من موقع التشتت والانفصال والتجزؤ … وقد كان من المفروض أن يتم الاتجاه نحو بناء الأوطان على أنقاض التعبيرات ما قبل الوطنية والانقسامات العمودية ( طائفية، قبلية، زبونية، الخ)، لكن العكس هو الذي حدث في الغالب، فبعد انحسار المد القومي بعد هزيمة 1967 و تكريس البعد القطري في الواقع سنشهد إعادة استثمار مكثفة من قبل هذه الكيانات السياسية للولاءات التقليدية في محاولة لتوسيع القواعد الاجتماعية للشرعنة وللتغطية عن العجز في تحقيق إجماع سياسي قادر على صهر كل التشكيلات الاجتماعية في وحدة سياسية قوامها الاحتكام إلى دولة القانون والقواعد الديمقراطية، وتحقيق التنمية الموعودة. نتج عن ذلك الاحتماء بالتعبيرات الهوياتية وتنشيطها (عرب/ أكراد، عرب مسلمين/عرب مسيحيين، سنة/شيعة، الخ) سواء من قبل الدول أو التشكيلات الاجتماعية والثقافية المختلفة. لقد أفرزت الانقسامات الهوياتية والطائفية بالإضافة إلى تضافر عوامل أخرى ( الاستعمار، الصراع العربي الإسرائيلي، الثروة النفطية…) نتائج كارثية على الحياة الديمقراطية في البلدان العربية لعل أجلاها الحرب الأهلية اللبنانية وما يحدث في السودان ومشكل الأقباط في مصر وغيرها.

وفي المغرب العربي فقد اخذ هذا التقابل بعدا آخر لا من حيث حجمه وأشكاله التعبيرية التي كانت اقل عنفا من المشرق، وإنما كذلك من حيث مضمونه. فقد طرح بشكل عام في إطار الاختلاف الإثني اللغوي بالأساس. ففي الجزائر ترجع أصول الصراع إلى المرحلة الاستعمارية، حيث كانت السياسة الكولونيالية تتوخى إدماج العنصر البربري داخل الثقافة الفرنسية أكثر من الدفاع عن خصوصية ثقافية ما، وشكل التعليم الوسيلة الأساسية للفرنسة، مما ولد الانطباع لدى الحركة الوطنية الجزائرية بالارتباط بين المشروع الاستعماري والمشكل الثقافي ومشروع تفتيت الوحدة الوطنية. وساهمت هذه الخلفية، غداة الاستقلال، في تقسيم الحركة الوطنية بين تيار عروبي متشدد مشكل من الزعماء السياسيين والعسكريين الذين ناضلوا في الخارج والتيار الامازيغي المكون من زعماء النضال الذين نشئوا في الداخل. وانتهت المواجهة إلى سيطرة تيار الخارج على السلطة السياسية، الأمر الذي فهم من طرف الامازيغ على انه إقصاء لهم من الاستفادة من ثمار الاستقلال المادية والرمزية. إن كل الوثائق السياسية والإيديولوجية لهذه المرحلة والتي أنتجتها جبهة التحرير الوطني لم تكن تحيل إلا للمكون العربي والإسلامي في تحديد الهوية، وبعد ذلك إلى الاشتراكية كايديولوجيا للتحديث والتصنيع والتقدم. وساهمت سياسات ما بعد الاستقلال في إقصاء وتهميش  المكون  الامازيغي. وكرد فعل على ذلك سيتم تسييس المطلب الثقافي الامازيغي، لكن مع ذلك بقي الطرح الانفصالي هامشيا رغم حدة المصادمات والمواجهات بين الأجهزة الأمنية وسكان منطقة القبائل الكبرى والصغرى ومنطقة الاوراس.

وفي المغرب كان الانفصال أكثر هامشية من جارته، لذلك فالمشكل الامازيغي طرح في إطار الوحدة الوطنية والتعددية. إن الوعي الثقافي الامازيغي بدأ في التبلور بشكل بارز أواخر السبعينات من القرن الماضي، فقد شهدت سنة 1967 تأسيس أول جمعية ثقافية تعنى بالثقافة الامازيغية. وليس غريبا أن تتزامن فترة التأسيس مع تراجع بريق الدعوة القومية بعد هزيمة 1967 فكان صعود التعبيرات الهوياتية أول النتائج السياسية المباشرة للهزيمة العربية، حيث تم تفسير الإخفاق كنتيجة  للايديولوجيا القومية ولغياب الديمقراطية في تدبير الوحدة.

إلا أن هذا الصعود وجد معارضات كبيرة بسبب تضارب المصالح السياسية وتباين الأهداف الإيديولوجية للمكونات السوسيو ثقافية، وسيادة بعض التصورات الايديولوجية الاقصائية داخل الدولة والتنظيمات السياسية على السواء:

1- فقد سيطرت النظرة المركزية اليعقوبية في النظر إلى المسالة الاثنية،  وتهميش قضايا اللغة والتراث الشفوي والذاكرة الشعبية بفعل سيادة المفاهيم التقنية والأداتية للعقلانية الغربية: مفاهيم التقدم والنمو والرفاه الاقتصادي وكذلك بفعل انتصار الفكرة القومية، أي فكرة الدولة / الأمة التي قامت على خلفية القضاء على التقسيمات الأولية وتجاوز الاختلافات العرقية والاثنية والدينية والرقي بالولاءات إلى المستوى السياسي الذي تعبر عنه دولة مركزية وشعب متصور كوحدة متجانسة عرقيا وثقافيا و”السيادة” المنظور إليها كتماثل للمجموعة البشرية مع مجال ترابي جغرافي، اقتصادي، سياسي وثقافي موحد يؤسس لشرعية  وجودها. وشاطرت الأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية هذه الرؤية الضيقة للوطنية التي كانت ترى في كل تعبير اثنو ثقافي بمثابة تهديد للكيان والوحدة الوطنية، كما أن ظروف النضال من اجل الاستقلال وبناء الدولة الوطنية الحديثة دعمت أطروحتها، فقد كان الأمر يتطلب بالإضافة إلى مركزة الدولة وبناء المؤسسات اختيار لغة رسمية تكون بمثابة ضامن للاستقرار والتجانس والوحدة وتساهم في إضفاء الشرعية على السلطة خاصة في المستوى الرمزي العميق، وسيتم اختيار اللغة العربية بسبب العوامل التاريخية والدينية،  لذلك سيتم الربط بين اللغة العربية وتحقق الهوية الوطنية. إن هذا الاختيار فرض نفسه على الدولة الحديثة فهذه اللغة قادرة على إعطاء الشرعية للنظام السياسي بسبب المكانة المميزة للإسلام في تشكيله. ونحن نعلم العلاقة الجوهرية بين اللغة العربية والدين الإسلامي، إلى درجة يصعب فصل احدهما عن الآخر. وقد جعلت الحركة الوطنية نفسها من التعليم إحدى أهم مداخل مواجهة التفتت والتجزئة وتأسيس الشخصية الوطنية، لذلك لا غرابة أن نجدها تدافع بشراسة على مطالب التعريب والتعميم،  والتوحيد والمغربة. وتم النظر إلى الفرنسية باعتبارها طمسا للشخصية الوطنية واستلابا للهوية العربية وعزلا للمغرب عن امتداده المشرقي.

2– صياغة ذاكرة جماعية وتاريخ وطني يقومان على مسلمة الوحدة وتمريرهما عبر سياسة إعلامية تربوية ” عروبية” تهدف إلى طمس معالم الشخصية الامازيغية وإقبار الاختلاف، فالمؤرخ الوطني سيدافع عن ” تجانس التشكيلة السوسيو ثقافية المغربية منذ الفتح الإسلامي، وعن تجدر الدولة / الأمة داخل الكيان التاريخي المغربي. وهذه النظرة ستطال حتى خطاب العلوم الإنسانية حيث سيتم تفضيل مبحث ” التاريخ” على “الانتروبولوجيا”، باعتبار الأول يدعم الوحدة من خلال التفكير في المستمر والشمولي، بينما الثاني ينزع نحو الانفصال والتجزؤ من خلال إظهار الشفهي، العرفي، المكبوت…

3– توظيف السياسة العرقية الاستعمارية ( ظهير 16 ماي 1930 ) والتي دافعت عن أطروحة العداء بين المخزن والسيبة، بين السلطة المركزية والسلط المحلية، بين الشرع والعرف. فتحت تأثير نزعة ” التمركز الغربي حول الذات” أنتجت المعرفة الكولونيالية تعارضا وهميا بين العرب والبربر، بين العرف والشريعة، بين بلاد المخزن وبلاد السيبة وحاولت تأسيس قطيعة وانفصال تام بين تشكيلتين سوسيو ثقافيتين ونظامين عرقيين ظلا متجانسين لمئات السنين إلى أن اكتشف الفكر الكولونيالي تنافرهما المفترض. أما عندما يتم الاعتراف بوجود علاقات بينهما فإنها لا تدرك في  الغالب إلا كعلاقات خارجية تتسم بالتصادم والمواجهة والنفي المطلق. يرى عبد الله حمودي أن الصورة التي انتجهتها هذه المعرفة عن البربري تتركز في ” الفورسية”، “الشجاعة”، “حب الملذات”، “العنف والضراوة”، ” إن كل البرابرة حسب جوستينار[9] مثله “عاشقون لحريتهم”، “لا يثقون كثيرا في وعود الملوك”،”يستسلمون لمشيئة الله ويصبرون على ما يصيبهم” [10] .أما صورة العربي المسلم فإنها تختزل في الاستبداد والتباهي والسطحية والتقليد ففي كتابهما حول أهل فاس يستنتج الإخوان طاروا أن ” الفاسي تفاخري: يحب استعراض ثروته”[11]  وان سلوكه الاجتماعي يتميز بالتقليد والمحافظة ورفض التجديد في كل المجالات بدءا بالمعاملات المدنية والاجتماعية  والعلاقات الأسرية والجنسية وصولا إلى الاحتفالات والأفراح و المتع، يقولان” كثير من الرفاهية، ابتكار منعدم. في المعمار كما هو الشأن بالنسبة لكل شيء فان الفاسي يتبع التقليد”[12] ويضيفان في موضع آخر ” كل شيء يجب أن يحترم القاعدة حتى الرغبات ولا شيء يجب أن يكون موضع تجديد أو ابتكار”[13]  أما إسلامه فهو صوري خالي من البعد الروحي[14]. لقد أدت هذه الصور الوهمية عن العرب والبربر في وعي النخب الوطنية والسلفية إلى اعتبار كل دفاع عن المطلب الامازيغي بمثابة إحياء للنعرات العرقية ودفاع عن المصالح الاستعمارية.

4– استغلال الهوية الامازيغية من طرف السلطة السياسية وبعض الفئات الاجتماعية لتحقيق مطامح ذاتية أو للاندماج داخل الحقل السياسي. لقد ساهم تأسيس الحركة الشعبية سنة 1957 بالشكل الذي تم فيه ( استغلال الاختلاف العرقي) وبالظروف التي تم في إطارها ( مواجهة تصاعد نفوذ حزب الاستقلال في القرى المغربية) في تحريف المطلب الامازيغي من مطلب ثقافي إلى دعوى عرقية ومشهد فلكلوري.

5- التهميش والعزلة النسبية للمناطق الجغرافية التي يقطنها الامازيغ ( الريف، سوس، الأطلس ) في مقابل اندماج تدريجي لباقي المناطق في مسلسل التحديث والتنمية الرأسمالي والاستفادة من مكتسبات الاستقلال.

6 – سيادة النظرة الإقصائية لدى اليسار الذي كان يرى في صعود المسالة اللغوية والثقافية بمثابة تحريف لمستلزمات الصراع الطبقي، فما كان مطلوبا في تلك المرحلة ليس تضخيم الوعي الاثني وإنما تأجيج التناقضات الطبقية بالدرجة الأولى، وحل الصراع الطبقي،  بينما المشكل اللغوي والثقافي سيتم حله تلقائيا في إطار حل القضية المركزية المتمثلة في الاستغلال الرأسمالي للطبقات المنتجة.

أما اليوم  و بعد مخاض طويل وصراعات مريرة  لم يعد  المطلب الامازيغي  يطرح كما كان الأمر في السبعينات والثمانينات،  إن المتتبع المحايد ينتهي إلى الإقرار بوجود تطور كبير في التعاطي مع الامازيغية سواء على مستوى الدولة والأحزاب السياسية أو المجتمع المدني. فلم تعد الحركة الامازيغية ذلك الفاعل المنعزل والنخبوي كما كان الأمر في البدايات الأولى، بل لقد استطاعت بما راكمته من تجارب ونضالات أن تدفع النخب السياسية إلى الإقرار بمشروعية مطالبها.

وإذا كان هناك اليوم شبه إجماع حول ايجابية وأهمية ما تحقق بالنسبة للثقافة الامازيغية فان ذلك راجع بالأساس إلى مجموعة من الوقائع والأحداث والمبادرات التي ساهمت مجتمعة في التسريع بهذا التطور وعلى رأسها يأتي:

الانفتاح السياسي الذي مهد الطريق أمام ميلاد مجتمع مدني مشكل من الحركة الامازيغية والنسائية والجمعيات الثقافية والحقوقية، وهو ما تجسد عمليا في انبثاق الحركة الامازيغية من خارج التأطير المفاهيمي والايديولوجي والتنظيمي للأحزاب السياسية التقليدية. في المقابل برز اتجاه يدعو إلى الرقي  بالفعل الجمعوي  إلى المستوى السياسي دون الاقتصار على البعد اللغوي والثقافي، فقد دعا ” البيان الامازيغي” (مارس 2000 ) إلى تأسيس حزب سياسي  امازيغي يستطيع إقرار نقلة نوعية داخل الحركة من المطلب الثقافي إلى البرنامج السياسي . وهو ما تحقق فعليا بتأسيس الحزب الديمقراطي الامازيغي سنة 2005 قبل أن يتم حظره في ابريل 2008 من طرف المحكمة الإدارية بالرباط.

إلا انه رغم أهمية المكتسبات فان مجموع الحركة يرى بان أهم المطالب لم تتم الاستجابة لها وعلى رأسها مطلب  الإقرار بعلمانية الدولة وما يتبع ذلك من فصل للدين عن الدولة كمبدأ أساسي لضمان حياد الدولة وعدم تسخير مؤسساتها وأجهزتها لخدمة  دين أو طائفة أو عرق معين ، إعادة كتابة التاريخ الوطني بشكل علمي موضوعي يعيد الاعتبار للبربر والثقافة الامازيغية.

وفي الأخير تجدر الإشارة إلى أن التفاؤل النسبي بمستقبل الهويات الثقافية في عالم اليوم لا يجب أن يخفي عنا بعض المخاطر والانزلاقات الكامنة في عالمنا العربي  والمتمثلة في الدعوات الانفصالية أو الاستئصالية التي تبرز من حين لآخر عند هذا الطرف أو ذاك والتي تهدد بالانحراف من الحديث عن الهوية كواقعة سوسيو ثقافية تؤشر بوجود سمات ثقافية وحضارية مشتركة لدى مجموعة بشرية معينة تمنحها الشعور بالوجود والاستقرار والتماسك والأمن، وكواقعة تاريخية قابلة للتطور والتجديد والاغتناء عن طريق الانفتاح على الهويات الأخرى إلى مجرد خطاب إيديولوجي “ماهوي ” “لا تاريخي”. إن مستقبل أي هوية لا يمكن أن يتصور إلا داخل النظام الديمقراطي الحداثي التعددي.

[1] -ادم كوبر،ط الثقافة: التفسير الانتروبولوجي”، ترجمة تراجي فتحي، مراجعة د.ليلى الموسوي، سلسلة عالم المعرفة، عدد .349، مارس   2008 ، ص 70

[2]- Alain Touraine, « Le Retour de L’acteur, Essai de Sociologie », Fayard 1984

[3] –  عبد الله حمودي “العنف إضاءة انتروبولوجية”، حوار ، مجلة فكر ونقد، عدد 55

[4]  -العروي عبد الله، نفس المرجع، ص 41 .

[5]   – العروي عبد الله، نفس المرجع، ص 43 .

[6]  –  ذكره رئيف خوري في ” الفكر العربي الحديث، اثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي”، بيروت، دار المكشوف 1943، ص 66.

[7]  – بلقزيز عبد الإله “القومية والعلمانية” دار الكلام للنشر والتوزيع 1998، ص 10

[8]   – العروي عبد الله ، نفس المرجع، ص 47 .

[9] – جوستينار هو ضابط ومنتدب ارتباط ومستشرق كتب كتابا عن القايد الطيب الكندافي :

Justinard, L ” Un Grand Chef Berbère, Le Caid Goundafi”, Atlantides, Casablanca, 1951

[10] – عبد الله حمودي ” الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة” ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، 2000 ، ص 154 .

[11] – Tharaud Jérome et Jean « Fès ou les Bourgeois de l’Islam »Réédition , Ed Marsam, Rabat 2002, p 19

[12]- Ibid, p 19

[13] – Ibid, p 51

[14] -Ibid, p 62

* كاتب وجامعي من المغرب

sibaradmin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *