ما يعرفه سوريون كثيرون: صبحيّة في فرع أمن الدولة

ما يعرفه سوريون كثيرون: صبحيّة في فرع أمن الدولة
Warning: Undefined variable $post in /customers/4/2/e/etccmena.com/httpd.www/wp-content/plugins/facebook-like/facebooklike.php on line 81 Warning: Attempt to read property "ID" on null in /customers/4/2/e/etccmena.com/httpd.www/wp-content/plugins/facebook-like/facebooklike.php on line 81

بقلم: د.هيفاء بيطار
الأربعاء، 4 آذار 2015Iraq Torture Rights Group

الخامسة فجراً. عنوان يومي اليوم. زيارة فرع أمن الدولة. الذل مسجل في وجهي. حاولتُ أن أمثّل أنني بخير وأن الموضوع بسيط، فهو مجرد زيارة لفرع أمن الدولة، وهناك توصية بي، بإزالة قرار منعي من السفر، من دون الحاجة أن «أشحط» إلى مركز المخابرات العامة فرع 255 في كفرسوسة… وجدتني أفكر بهيثم الشاب الوسيم الهادئ الرائع، الموظف في المرفأ، والذي اعتقل لأربعين يوماً لا يعرف لماذا؟! وعذّب عذاباً فظيعاً ومُهيناً من دون أن يعرف لماذا، حكى لي أن من اليوم الأول، دخل ضابط الزنزانة وطلب من هيثم الركوع، ثم وضع رأسه بين فخذيه وطلب من عناصر اللجان الشعبية ضرب هيثم، فانهالوا عليه بخراطيم المياه والعصي… وتركوه مع حفنة من الشبان المعتقلين في زنزانة ضيقة وحقيرة ثلاثة أيام بلا طعام أو شراب، ثم بدأوا يحضرون لهم وجبة طعام وحيدة في اليوم، إما سندويش فلافل أو نصف سندويش، ويحضرون نصف زجاجة ماء. على سبعة سجناء أن يشربوا منها طوال اليوم، أي أن كل سجين برشفة ماء طوال اليوم.

الخامسة فجراً، ولم تنجدني ذاكرتي إلا بصورة هيثم، والغوص في ذل عيشنا في سوريا الأسد، أن نعيش هنا يعني أن نشعر في كل لحظة بأننا منسحقون ومحطمون وأن نحسّ باستمرار الإهانة والتحقير. لا يفسحون المجال كي ننسى أو نتناسى لحظات العيش الذليل والقهر… أغمضتُ عيني إعياءً. أحس حين أغلق عيني أنني أغلق نفسي، فيبدو الزمن الذي يفصلني عن موعدي مع ضابط أمن الدولة أبدياً ولانهائياً، عليّ أن أتصل به حوالى التاسعة كي أنطلق إلى مكتبه المحاط بحراسة مشددة. كيف سأمرر الوقت، بدت لي الساعات الأربع لا نهائية. أحاول الهروب من نفسي ومن الزمن بلا جدوى… كنتُ أشعر بثقل حزني واكتئابي، ولم أستطع النظر إلى نفسي في المرآة، لأن المرآة اللئيمة تؤكد لي كل يوم أن لا شيء تغير، وأن كياني الذي ينضح بالقهر هو ذاته، لم يتغير.

حياتنا في سورية أشبه باللانهاية. حياة عديمة المعنى، بلا تطلعات ولا طموح، نقبر القهر في نفوسنا ونمثل أننا بخير، كاتمين قهراً وألماً لا سبيل إلى الإفصاح عنهما، لأن الجار يخشى من جاره، والزوج من زوجته، والأخ من أخته. كيف سأبدّد الساعات اللانهائية، ماذا أملك سوى التفرج على نشرات الأخبار التي تنقل لي صور الدمار في كل أنحاء سوريا، وطن يُدمر منهجياً وبمباركة دولية، شعب يموت يومياً، وينزح يومياً، وعلينا أن نصدق أننا نعيش!

أشرب القهوة باشمئزاز، ومع ذلك أشربها وقد أموت قبل أن تُفك تلك اللحمة الأبدية بين سورية الذلّ، يا خوفي من استمرار الذل إلى ما لا نهاية.

وبدا لي مستحيلاً أن أسيطر على أحاسيسي وأضبط حالتي النفسية ولدي موعد مع ضابط أمن الدولة… كنتُ مروّعة منذ الصباح، ليس ترويعاً آنياً، بسبب الزيارة إياها، بل ترويعاً عمره من عمري تماماً، نصف قرن من تجرّع الذلّ والقهر وانعدام الكرامة والخوف، ثمن عيشنا في سورية.

لم أجد أي عزاء إلا في الكتاب الرائع لياسين الحاج صالح «بالخلاص يا شباب» 16 سنة في السجون السورية، حين قرأته أصبتُ بصدمة مروّعة، كنتُ قد قرأت الكثير من الكتب عن السجون السورية، وغير السورية، لكن ياسين وضعني في روحية السجن، أبدع في وصف تلك اللحظات حين كانت روحه تتأرجح على شفير اليأس والانهيار، الكتاب يصح أن يندرج في تصنيف الكتب عن القديسين والآباء الروحيين، إنه لا يختلف أبداً عن معاناة آباء روحيين ونساك عاشوا منعزلين عن الناس في غابات أو قمم جبال، يتألمون آلاماً لا تطاق نيابة عن البشرية المعذبة… كانت روح ياسين الحاج صالح في الكتاب، حرة حرة، على رغم فظاعة السجن، والفظيع سجن تدمر، لكن، ثمة روح حرة انتصرت على السجن. أشبه بالماء والهواء، مهما حاول الرصاص قتلها فلن يفلح، ومهما حاولت السكين تقطيعها فلن تنجح.

كنتُ التقيت ياسين مراراً، وفي كل مرة كنتُ أرغب أن أقبل يديه، كان أيقونة الكرامة والحرية، وكان – وهو الأهم – حكم القيمة على نظام استبدادي أمعن في إذلال الناس وسحق حريتهم وكرامتهم وقتلهم… مع هذا النظام كنت على موعد هذا الصباح.

تعكّر مزاجي إلى درجة فظيعة الى درجة الرغبة في ألا ألبّي موعدي مع ضابط أمن الدولة، تخيّلت الحواجز الإسمنتية والرملية، والجنود المتناثرين والبواريد والكآبة الخانقة التي تغلّف المشهد كله، كنتُ سجينة تماماً، وبدت لي الحياة عديمة المعنى كلياً، كان عقابي الأفظع إحساسي بنفسي، إدراكي الواعي- الذي لا مجال للهرب منه – أنني صرت إنسانة لا أطيق نفسي، إنسانة مجبرة على أن أصير مستودعاً للأحقاد والكره والغضب المروّع، وكنتُ طوال الوقت أرغب في أن أهرب من تلك الإنسانة التي صرتها. كنتُ كمن يركض بأقصى طاقته هرباً من ظلّه، لكن ظلّه يلاحقه بالسرعة ذاتها.

ممنوعة من السفر، وعليّ مراجعة فرع المخابرات العامة في كفرسوسة في دمشق رقم 225، هذه أنا، هذه بطاقة وجودي في سورية.

ولماذا لا تحقّقون معي في اللاذقية، في فرع أمن الدولة في اللاذقية؟ لماذا يجب أن أشحط إلى دمشق وفي ظروف مروّعة من التفجيرات والقتل والخطف، ألم تكتفوا من إذلالي وإذلال شعب بأكمله؟!

كان عليّ أن أعيش حياتي كما لو أنني أتفرج عليها، وأن أتأبط ذراع الإهانة بذراعي اليمنى، وذراع التحقير بذراعي اليسرى، وأسير معتقدة أنني بخير وأنني أعيش، فيما أنا أتقيّأ زمني ونفسي كل لحظة.

في التاكسي الذي يقلّني إلى فرع أمن الدولة شعرت بالغربة والدهشة من كل ما أراه، كنتُ أحس كما لو أنني أمثّل فيلماً، سائق التاكسي غريب، والناس في الشارع غرباء، وبدا العالم كله غير واقعي وغير حقيقي، كنا بشراً افتراضيين في وطن افتراضي… وشعرتُ بذعر فظيع لسبب لم يخطر في بالي من قبل، وهو خوفي أن أنسى الكلام، خوفي أن يجفّ الكلام في روحي، وأن أتحوّل إلى إنسان يصرخ باستمرار، لم يبقَ لنا سوى الصراخ، ياه كم أنا متعبة، وكم هي موجعة تلك الحقيقة فأنا منذ سنوات كففت فعلاً عن الكلام وتحوّل كل ما أقوله إلى شتائم فاحشة وصراخ.

كالعادة الباب الحديد العملاق، وشجرة الياسمين البلهاء المزهرة، والصورتان المتجاورتان المتلاصقتان العملاقتان، والانعطافة إلى اليسار، والدرج القصير والرواق المعتم الموحش الطويل، والباب الخشبي الأنيق، ثم مكتب العقيد، ثم سيادة العقيد الذي سلم عليّ ببرود، وقال بنفاد صبر: لا مفرّ من مراجعة فرع المخابرات في دمشق.

قلتُ بآلية وبرود: لماذا لا تُحل المشكلة هنا، لماذا لا يسألون ما يريدون أن يسألوا هنا، وعن طريقك.

غضب وقال: لماذا لا تراجعينهم؟ لقد سمحنا لك بالسفر لمرة واحدة، لكن عليك الآن مراجعتهم. هذا قرار لا رجعة عنه.

قلت بتحدِ مبطن: في هذه الظروف لن أسافر إلى دمشق.

كنتُ أتمنى لو أملك الجرأة أكثر وأقول له، لماذا غايتكم إذلالنا؟

قال: لِمَ لا تسافرين، الجميع يسافر، واستشهد بزائر لديه وسأله: ألم تكن في دمشق؟

أجاب الزائر: أجل،عدتُ البارحة.

وقال العقيد: ما في شيء بالشام.

تأملت العقيد، رجل أنيق، ملامحه مسالمة يا للعجب! يبدو مفرطاً في النظافة كما لو أن لديه وسواساً قهرياً بضرورة الاستحمام اليومي الصباحي، كان يلبس قميصاً أزرق مكوياً بطريقة رائعة، وشعرتُ برغبته في إذلالي، كان يخفي رغبته في تجريحي، وحين قال: ما في شيء في دمشق، ابتسمت ولم أعلق بكلمة. وشعرنا – هو وأنا – بتخلخل الهواء بيننا. كل هذا الدمار والقصف على دمشق ويقول لا شيء في دمشق!

كان عليّ أن أنفّس عن أحقادي وغضبي وإحساسي الذي لم أعد أطيقه بالذل والمهانة، لقد عشتُ عمري مهانة ومداسة الكرامة، فانفجرت بصراخ مدوٍ مع الصديق الذي اتصل بي.

تخيلت المارة يلاحقونني بنظراتهم بدهشة وشيء من ذعر، كنت امرأة فقدت صوابها، تصرخ في الشارع وتلعن الحياة والقدر، وتشتم وتهذي بكلام يتفجر كقصف من شظايا القهر والذل متراكمة منذ عقود… لم نكن مواطنين بل مجرد ممنوعين من السفر.

عدتُ إلى البيت، ابتلعت حبة «ليكزوتان»، استعدتُ رغماً عني لقطات من لقائي القصير مع الضابط، لكن وجدتني أركّز على المشاهد التي كان يبثها التلفزيون السوري في مكتب ضابط أمن الدولة، كانت مشاهد مروعة لمواطنين سوريين فقراء في شارع المزّة جبل، وقد تهدمت بيوتهم ومات أحبتهم من جراء قصف مروع، يتهم فيه النظام جماعات إرهابية. وجوه لأطفال ونساء مذعورين وفاقدي السيطرة على أعصابهم يصرخون ويعوون من الألم، وامرأة تضرب صدرها وتقول: كفى كفى، فأشعر كيف تمزّق نسيج روحها، ورجال يحملون جثث أطفال معفرة بالتراب وأنقاض الحجر.

لكن ما بقيَ في ذهني كوشمٍ كاو ٍصورة طفل جميل جداً عسليّ العينين، يبكي بصمت، وهو يرفع أصابعه المرتعشة بقوة لمسح دموعه من دون أن يؤاسيه أو ينتبه إليه أحد.

لو أردت أن أجسّد سورية بصورة، لالتقطت صورة لوجه هذا الطفل والذي قدرت أن عمره تسع سنوات.

لن أراجع فرع أمن الدولة الرقم 225 في كفرسوسة… سأبقى هنا في الحظيرة أكتب كما فعل تماماً ياسين حاج صالح في السجن طيلة ستة عشر عاماً… وأصرخ من دون أن يسمعني أحد: بالخلاص يا شباب، بالخلاص يا شباب، بالخلاص يا ياسين، بالخلاص يا هيثم، بالخلاص يا شعبي الحبيب، بالخلاص من الذل والخوف والقهر والظلم.

(المصدر: الحياة)

sibaradmin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *