الوزارة السورية الجديدة: رجال لا في العير ولا في النفير!

Warning: Undefined variable $post in /customers/4/2/e/etccmena.com/httpd.www/wp-content/plugins/facebook-like/facebooklike.php on line 81 Warning: Attempt to read property "ID" on null in /customers/4/2/e/etccmena.com/httpd.www/wp-content/plugins/facebook-like/facebooklike.php on line 81

 

سوف تذكّرنا بأنّ هذا هو السلوك الوحيد اللائق باللواء مملوك وجهازه: لقد أعاد اعتقال النائب السابق مأمون الحمصي، واستدعى النائب السابق رياض سيف (كلاهما غادر الزنزانة قبل أقلّ من شهر فقط، في غمرة ضجيج وعجيج وكرنفال بعض المحامين العرب من أهل النفاق والكذب والمسخرة)، ثمّ اعتقل الناشط الديمقراطي البارز محمد نجاتي طيارة، وأعاد اعتقال محمد علي العبد الله الذي سبق أن اعتُقل لأنه دافع عن والده المعتقل علي العبد الله (صاحب الجريمة النكراء الشهيرة: أنه، في اجتماع عامّ علني لـ “منتدى الأتاسي”، قرأ رسالة إلى المنتدى بعث بها المراقب العامّ للإخوان المسلمين علي صدر البيانوني، عن طريق البريد الإلكتروني!).

ولكي يعيد تذكيرنا بأنّ الزمن ينصرم دون أن تنصرم أساليب النظام الأمنية، أفرج اللواء مملوك عن الحمصي وسيف، بعد احتساء “فنجان القهوة” الذي بات تسمية شعائرية ما بعد ـ حداثية تعتمدها الأجهزة الأمنية السورية بديلاً عن تسميات سابقة أوضح، مثل الإستدعاء والتحقيق والإعتقال. لكنّ اللواء مملوك ندم، كما يبدو، على إطلاق سراح الحمصي فأرسل يطلبه مجدداً من أجل فنجان قهوة ثانٍ؛ وحين وصل الرجال ولم يجدوا الأخير في بيته، مارسوا ما أتقنوا ممارسته طيلة عقود: اقتادوا ابنه ياسين الحمصي رهينة، ولم يفرجوا عنه حتى ساعة كتابة هذه السطور، رغم أنّ والده سارع بافتدائه وسلّم نفسه إلى الجهاز دون إبطاء.

في وسع المرء، كذلك، أن يعتبر هذه الطقوس الأمنية المملوكية (نسبة إلى سيادة اللواء، وليس إلى المماليك إياهم!) بمثابة هدية إلى التشكيلة الوزارة السورية الجديدة، وتحديداً إلى وزير الإعلام الجديد محسن بلال، لكي يحسن إعلام البشر حول ما يتغيّر في هذا البلد، أو بالأحرى حول ذاك الذي لا يتغيّر ولن يتغيّر ما دام هذا النظام على قيد الحياة. ونحن نعلم أنّ بلال يُقدّم اليوم بوصفه “وجه السحّارة” كما نقول في سورية، أي أحد النماذج التي تساعد في تلميع وجه الصندوق في التشكيلة الوزارية الجديدة. إنه طبيب عرف الغرب عن كثب، سواء أثناء دراسته في إيطاليا أو سفارته الطويلة في إسبانيا، وشاب لمع في مجلس الشعب وأوساط السلطة في العاصمة مطلع وأواسط الثمانينيات، وكان محطّ إعجاب حافظ الأسد شخصياً حتى أنه ذات يوم أراده بلال صهراً له، وصورة الجيل الوسيط الشابّ من البعثيين الذين أدركوا أنّ في هذا العالم الواسع ما هو أوسع من البعث الواحد قائد الدولة والمجتمع).

وإذا كنّا لم نسمع، حتى الساعة، تعليق الوزير الجديد على اعتقال وإعادة اعتقال الحمصي وسيف وطيارة والعبد الله، فالأرجح أنّ الرجل وأبواقه في وضع محتوم جليّ سلفاً وقبل أن يدلي بأيّ تصريح، بالنظر إلى أنّ ما يأتي به الجهاز الأمني من أفعال ليس فوق النقد في وسائل الإعلام الرسمية فحسب، بل يتوجب أن يكون محطّ تنزيه وتثمين وتفخيم وتقدير. هذا، بالطبع، تقليد عريق متفق عليه ضمناً وعلانية أحياناً، أرسته “الحركة التصحيحية” منذ سنواتها الأولى، وحتى حين تولى حقيبة الإعلام رجال مقرّبون تماماً من قادة الأجهزة الأمنية. الجديد فيه هو هذا بالضبط: أنهم يأتون برجل يتمّ الترويج له كـ “وجه السحّارة” الجدير بتلميع الصورة (ولا يُقال: تنظيفها!)، لكي تثبت أسابيع معدودات أنه مثل سواه، لا في العير ولا في النفير.

كانت هذه هي حال عدنان عمران وزير الإعلام في أوّل وزارة يشرف بشار الأسد على تشكيلها في عهد أبيه، حيث قيل لنا إنّ عمران عاش في الغرب وعرف قيمة الإعلام وسيغيّر ويبدّل، فانتهى إلى اتهام دعاة إحياء المجتمع المدني ونشطاء “ربيع دمشق” بأنهم عملاء سفارات أجنبية ممّن يقبضون بالدولار. وكانت هذه هي حال مهدي دخل الله، الذي جاء إلى حقيبة الإعلام من رئاسة تحرير صحيفة “البعث”، مصحوباً بالكثير من الطبول والزمور ولافتات التجديد والتغيير، فانتهى بدوره إلى اتهام السوريين من كتّاب “القدس العربي” و”النهار” و”السياسة” الكويتية بأنهم مشاريع عملاء لصحيفة “يديعوت أحرونوت”! والامر ببساطة أنّ أمثال اللواء علي مملوك واللواء محمد منصورة (رئيس جهاز الأمن االسياسي) واللواء فؤاد ناصيف خير بك (رئيس جهاز الأمن الداخلي ـ الفرع 251) هم الذين في العير وفي النفير، لأنهم وحدهم خير ناقلي الإرادة الأعلى الأمنية والسياسية والإقتصادية والإعلامية كما يوحي بها أمثال العقيد ماهر الأسد واللواء آصف شوكت والفريق بشار الأسد.

والحال أنّ من حقّ كبار ضباط الأمن السوريين أن يتفاخروا على كبار المسؤولين البعثيين المدنيين في جانب إضافي آخر قد يجهله البعض، وهو علوّ الكعب في الشؤون الثقافية والعلمية والأكاديمية! فعلى سبيل المثال، لكي نظلّ في دائرة وزارة الإعلام، ما الذي يميّز الدكتور محسن بلال خرّيج جامعتَي بادوفا الإيطالية وبنسلفانيا الأمريكية والأخصائي في زرع الكبد، عن الدكتور اللواء فؤاد ناصيف خير بك: خرّيج جامعة دمشق، والأخصائي في علم الإبستمولوجيا، وصاحب أطروحة الدكتوراه الشهيرة ذات العنوان الذي تقشعرّ له الأبدان: “من الإبستيمولوجيا إلى المجتمع: التاريخانية والمجتمع المفتوح عند الفيلسوف بوبر”؟ بل مَن هو الأجرأ علمياً: الطبيب جرّاح الكبد، أم الضابط جرّاح الإبستمولوجيا التاريخانية عند فيلسوف نمساوي يهودي… يحدث كذلك أنه من كبار منظّري الفكر الصهيوني؟

وفي السياقات ذاتها، ولكن من منظور مختلف قليلاً من حيث طبيعة الإختصاص وليس طبيعة الصلاحيات، هل يصحّ اعتبار تعيين وزير الخارجية السابق فاروق الشرع في منصب نائب الرئيس للشؤون الخارجية والإعلام، بمثابة ترقية أم إحالة رمزية إلى التقاعد؟ وهل سلسلة المآزق التي يعيشها النظام في علاقته بالجوار الإقليمي، نجمت عن خيارات خاطئة في السياسة الخارجية، أم عن خيارات إنتحارية في سياسات أمنية خُيّل لصانعيها أنها وحدها التي تحصّن السياسات الخارجية، وتحفظ أمن النظام ذاته استطراداً؟ في عبارة أخرى، هل كان الشرع هو صانع قرار التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود، أو حتى الشريك في اتخاذه؟ وهل كان شريكاً في، أو حتى تناهت إليه أخبار عن، قرار اغتيال الحريري إذا تبيّن بالفعل أنّ مثل هذا القرار اتُخذ في دمشق؟ وبأيّ معنى يمكن شراء هذه البضاعة الديماغوجية، التي تتردّد في أوساط إعلامية وبعثية قريبة من الأجهزة الأمنية، وتقول إنّ تعيين الشرع نائباً للرئيس هو إشارة تشدّد وتصلّب يرسلها الأسد إلى العالم الخارجي؟

أغلب الظنّ أنّ الحلقة العائلية الضيّقة التي باتت تحكم سورية اليوم، وبعد أن ضاقت ذرعاً بأمثال غازي كنعان في بيت السلطة ذاته، لم تعد مستعدّة حتى لممارسة الحدّ الأدنى من اللباقة الشكلية، التي كانت في الأشهر الأخيرة هي التي تُبقي الشرع وزيراً للخارجية. في الآن ذاته تكون تسعة أعشار القرارات الكبرى في السياسة الخارجية حبيسة المطبخ العائلي للحلقة الضيّقة ذاتها، وحيث يحدث مراراً أن يكون الشرع آخر مَن يعلم بما يطبخه الأسد على ذروة قاسيون صحبة صهره وأخيه، أو ما يطبخه مع المصريين والسعوديين في جدّة وشرم الشيخ، وما يطبخه هؤلاء بالنيابة عنه في باريس وواشنطن. وأغلب الظنّ، بالتالي، أن منصب الشرع الجديد يرسل إشارة نقيضة تماماً في الواقع: أنّ النظام سيقايض أفضل هذه المرّة، بطاقم جديد في الشكل على الأقلّ، لأنّ المحتوى غير مفتوح للمقايضة أساساً في عرف واشنطن وباريس!

ولعلّ أوّل ما يلفت الإنتباه أنّ عدداً من الوزراء الجدد الذين تولوا حقائب حساسة في التشكيلة الجديدة، والذين تُطلق عليهم صفة “الشباب” ليس البتة لأنهم في أربعينيات الأعمار بل مقارنة بأمثال الشرع (68 سنة) ورئيس الوزراء محمد ناجي العطري (62) ووزير الخارجية الجديد وليد المعلّم (65)، كانوا محسوبين على أجهزة اللواء المتقاعد علي دوبا، الرئيس التاريخي للمخابرات العسكرية، وذلك حين شغلوا هذا أو ذاك من المناصب الحزبية أو الإدارية أو الأكاديمية أو الإعلامية في سنوات سابقة. الأرجح أنّ هذه هي أوّل وزارة سورية يحظى فيها دوبا بهذا العدد الكبير من الأتباع السابقين، الأمر الذي قد يعزّز التقارير السابقة التي تحدثت عن حظوة خاصة أخذ دوبا يتمتع بها من جديد، ربما على خلفية ضمان سكوته ـ وليس طمعاً في المزيد من الولاء ـ داخل جهاز السلطة السابق، وفي صفوف متقاعدي المخابرات العسكرية وبعض شرائح ضباطها الحاليين أيضاً.

ويبقى، بالطبع، أنّ الإبقاء على العطري رئيساً للوزراء لا يدلّ على الركود والإستمرارية فقط، بل يشير كذلك إلى أنّ حلقة السلطة الأضيق لم تعدّ مستعدّة للمغامرة بترقية أيّ اسم جديد، خصوصاً إذا كان قادماً من خلفية أمنية أو إثنية ذات طبيعة خاصة. ولقد ساقت الشائعات اسم اللواء هشام بختيار خليفة للعطري، وكان المنطق العامّ لسيرورة النظام يرجّح هذه النقلة الدراماتيكة، خصوصاً بعد انتخاب بختيار في القيادة القطرية ومحاولة تبييض ماضيه الأسود كضابط في الإستخبارات العسكرية. غير أن ما أبعد بختيار وأبقى على العطري هو تفاقم مآزق النظام، وإغلاق غرفة الإنعاش السعودية ـ المصرية حتى إشعار آخر، وتعاظم المشكلات الإقتصادية الجدّية التي أخذت تهدّد الخزينة تدريجياً ومباشرة، وتهدّد بالتالي مصادر إشباع مافيات النهب والإنفاق على الأزلام وإدامة شبكات الولاء.

ونتذكّر أنّ تكليف العطري بتشكيل الوزارة في خريف 2003 كان في الواقع أبرز مفاجآت تلك التشكيلة، إذْ لم يكن الرجل يملك من المزايا أيّ رصيد معقول يجعله يرتقي من عتمة رئاسة مجلس الشعب إلى أضواء رئاسة مجلس الوزراء. والفعل “يرتقي” صالح تماماً هنا، لأنّ العطري كان قد هبط من موقع نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الخدمات إلى وظيفة رئيس مجلس الشعب، التي تنحصر جوهرياً في تنظيم عمليات خضوع السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية، وقَنْوَنة وشَرْعنة أواليات هذا الخضوع. آنذاك اعتبرت شخصياً أنّ سلسلة المفارقات بلغت ذروتها في تركيبة تلك الوزارة، حيث بدا العطري عطّاراً يزمع إصلاح ما أفسد دهر “الحركة التصحيحية”، الطويل الممضّ الثقيل الدامي.

لقد ذهبت حكومة محمد مصطفى ميرو الثانية (والتقارير اليوم تتحدّث عن منعه من السفر، والحجز على أموال أقربائه المقرّبين!)، وجاءت حكومة العطري دون أن يلوح أنّ الجديد حلّ محلّ القديم. وآنذاك لاح أنّ المعادلة الوحيدة البادية في الأفق هي التالية: الأسوأ من احتمال وضع المراوحة في المكان هو أنّ تكون الحكومة الجديدة خطوة إلى وراء القديم الحقيقي، أي إلى المزيد من إحياء تقاليد “الحركة التصحيحية” في السياسة والأمن والإجتماع.

واليوم، مع وزارة العطري الثالثة، تكفّل اللواء على مملوك بتذكيرنا بما كنّا نعرفه ولا ننساه، في عبارة المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي: القديم لم يمت بعد، والجديد ولادته عسيرة!

أم هي اليوم ولادة مستحيلة؟

المصدر: حريات

sibaradmin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *